• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : الفوائد والبحوث .
              • الموضوع : 260- مباحث الاصول: بحث الحجج (حجية الشهرة) (2) .

260- مباحث الاصول: بحث الحجج (حجية الشهرة) (2)

مباحث الاصول: بحث الحجج (حجية الشهرة)

جمع واعداد: الشيخ عطاء شاهين *

الفائدة الثانية: إذا لم يتطرق المشهور لمسألة لا يُعد ذلك دليلاً على عدم وجوبها أو عدم حرمتها ؛  لأن عدم ذكرها  قد يكون لغفلة أو لأنهم ليس مقام الاستقصاء أو لعدم الابتلاء بها ، أو لعدم وضوحها ،  وكذا الحال في  إعراضهم عن دليل فلا  يعني عدم حجيته ؛ لاحتمال كون إعراضهم لغفلة أو لعدم تماميته سنداً أو دلالة وأما عند فقيه آخر يمكن أن يكون ذلك تاماً ؛ لذا هناك الكثير من المسائل التي انعقدت فيها  شهرة المتأخرين على خلاف شهرة المتقدمين  ؛ لأن الشهرة وإن قلنا بكونها  ظناً معتبراً ولكن هذا لا يعني أنها علة تامة لقبولها ، بل غاية الأمر أنها مقتض له ؛ لأنها ليست كالقطع حجيته ذاتيه يستحيل تخلفها عنه؛ لذا لا يصح  الاعتماد عليها فوراً من غير بحث عن المعارض وعن مدى دلالتها؛  ثم إن  الشهرة  وإن كانت كاسرة وجابرة فذلك للسند وأما للمتن والدلالة فليست كذلك ؛ وحينئذ يظهر عدم التأمل بالعمل بظواهر الكتاب والسنة المتواترة عند معارضة الشهرة ، وإذا وجد تأمل فليس من جهة مزاحمة الشهرة لدلالة الخبر الصحيح من عموم أو إطلاق ؛ وإنما هو من جهة مزاحمتها للخبر من حيث الصدور .  

بحث تطبيقي:
قال تعالى في محكم كتابه الكريم: (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظَّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ[1]).
ربما يستدل بهذه الآية الكريمة على وجوب الاستشارة في الشؤون العامة وعلى غير ذلك ، ولكن ربما يعترض على الاستدلال بعدة إشكالات[2]:
منها: أن مشهور الفقهاء لم يفهموا منها الوجوب وإلا لذكروها في ضمن الواجبات، إضافة إلى أن السيرة العملية للفقهاء لم تكن على الاستشارة والشورى، بل على التفرد بالرأي، يشهد لذلك حكمهم في باب الهلال وفي التصرف في أموال القصر واليتامى ... الخ، بل لم نجد مخالفاً في المسألة بل إن الإجماع منعقد على عدم وجوبها مما يكشف[3] عن رأي المعصوم عليه السلام ، ويشهد لدعوى الإجماع هذه أن الإجماع منعقد على حجية رأي كل فقيه لمقلديه وعدم حجية رأي فقيه آخر لمقلدي سائر الفقهاء.
و بما أن هذا الكلام يتضمن عدة فروع لذا سنرد عليه حسب تلك الفروع :

الفرع الأول: وهو القول بأن ( مشهور الفقهاء لم يفهموا منها الوجوب) فيكون فهمهم قرينة على عدم إرادة الوجوب منها .
فيرد عليه:
أن الفقهاء لم يتطرقوا لهذه لمسألة وجوب الشورى لا اثباتاً ولا نفياً حتى يقال إنهم لم يفهموا الوجوب منها[4].

الفرع الثاني: وهو القول  (وإلا لذكروا وجوبها في ضمن الواجبات).
فيرد عليه:
أولاً : لم يفرد الفقهاء - عادة - للواجبات والمحرمات كتاباً حتى يستقصوا فيه كل الواجبات وكل المحرمات، فيكون عدم ذكرهم لوجوب الشورى في ضمن التعداد دليلاً على عدم استفادتهم الوجوب بل إنهم يذكرون كل واجب في بابه كالصلاة والصوم والحج ووغيرها ،  وهذا كعدم ذكرهم لاستحبابها مع التزامهم به أو بأي حكم تكليفي من الأحكام الخمسة ؛ حيث لا يكون عدم الذكر في أي واحد منها دليلاً على الالتزام به.
ثانياً:  ولو فرض إفرادهم كتاباً لذلك أو كونهم - في كتبهم الفقهية - في مقام استقصاء جميع الواجبات وجميع المحرمات، فنقول: اللقب لا مفهوم له ؛ فإثبات وجوب الصلاة لا ينفي وجوب عنوان آخر ، فتأمل ووجهه واضح.
ثالثاً: أن عدم الذكر[5] لا يستلزم الحكم بالعدم[6]، إذ إن عدم الذكر قد يكون لاعتقاد عدم الوجوب اجتهاداً وقد يكون للغفلة عن المسألة ، وقد يكون للعثور على قرينة تصرف الأمر عن ظاهره ، وقد يكون لخروجها عن موضع الابتلاء [7].
ومن الواضح أن عدم الذكر للوجه الثالث من هذه الوجوه الأربعة يكون دليلاً على عدم الوجوب دون سائر الوجوه ، أما الوجه الأول فلعدم حجية فتوى المجتهد على غيره وسيأتي توضيحه[8].
وأما الوجه الثاني فواضح، إذ الغفلة عن ذكر شيء في عداد الواجبات أو غيرها لا يدل على عدم اعتبارهم إياه واجباً أو غيره ؛ وإلا لزم - بناء على ذلك - خلوه عن الأحكام الخمسة عندهم عند عدم ذكره وهو بين الفساد بل تستحيل دلالته على ذلك ؛ لأن عدم الاعتبار فرع الالتفات الذي لا يجتمع مع الغفلة لكون التقابل بينهما تقابل التضاد[9] أو تقابل العدم والملكة[10]؛ وأما الوجه الرابع فواضح أيضاً، إذ عدم ذكر حكم ما هو خارج عن محل الابتلاء أعم من كونه واجباً أو مكروهاً أو مستحباً أو مباحاً.
بل أن عدم الذكر للوجه الثالث أيضاً لا يكون دليلاً على عدم دلالة الآية على الوجوب، إذ أن ما يصلح لصرفها عن ظاهرها هو : عثورهم على قرينة تصرف الأمر عن ظاهره بحيث لو وصلت بأيدي سائر المجتهدين تلك القرينة لكانت حجة حتى عندهم بأن يتم سندها ويحرز دلالتها وعدم المعارض لها عندهم ؛ والأصل عدم تحقق هذا القيد[11] لكونه وجودياً، ولنا أصل سابق هو أصالة عدم قسيماته فتصل النوبة له،  بل نحن في غنى عن هذا الأصل ، لأن عدم إحراز الحجية[12]  كاف في عدم الحجية وعدم الصارفية ، ولا يحتاج في عدم الحجية إلى إحرازها وجداناً أو تعبداً بالاستصحاب، فتأمل.
وذلك أنه حدث خلط بين مرحلة الثبوت والإثبات؛ فالأصح القول بذلك عند التردد في كونه لأي من الوجوه لا اجرائه مع فرض كون عدم الذكر للوجه الثالث فليلاحظ.
إضافة إلى أن الأصح القول بأن عدم إحراز معارض ما هو ظاهر في الوجوب أو غيره كاف في البناء على ذلك الظهور، فهو ككل ظاهر احتمل فيه وجود قرينة على خلافه ولم يعثر على شيء بعد الفحص[13]، هذا إضافة إلى أن لنا أصلاً آخر سابقاً على أصالة عدم العثور على قرينة وهو أصالة عدم وجودها، فتأمل.
ولعل المتتبع يعثر على كثير من الموارد التي لم يتطرق لها الفقهاء بالذكر مما يوجه بأحد الوجوه الأربعة المذكورة مع خامسها المذكور أولاً:
منها:  الآية الشريفة (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِياءِ مِنْكُمْ)[14].
ومنها: الآية الشريفة (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ)[15] حيث لم يبحث عن أصل الحرمة وعن حدودها، فهل اليأس عن إحياء ميتة منه أم لا انصرافاً أو غيره.
ومنها:  هجر كتاب الله (وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً)[16] وكذا هجر المؤمن الوارد فيه روايات كثيرة، ففي صحيحة هشام بن الحكم قال رسول الله صلى الله عليه وآله: لا هجرة فوق ثلاث)[17] حيث لم يتطرق لحرمته أو كراهته أو حدوده.
ومنها:  مسألة هبة الحقوق الشرعية.
ومنها: آية نهر السائل (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ[18]).
ومنها:  آية التنازع (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا)[19] خاصة مع كثرة المصاديق المشكوكة وعموم الابتلاء.
ومنها: آية (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ) [20]فهل هو حرام أو مكروه مولوية أو إرشادية.
ومنها:  آية منع الماعون (الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ * وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ)[21] فهل منعه حرام طلقاً أو في صورة كون البناء عليه - أي منع الجميع محرم أو خصوص المجموع-  أو عدم الحرمة مطلقاً.
ومنها: آية المنة (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ[22]) فهل هي مكروهة أو محرمة مطلقاً أو فيما استلزمت الايذاء أو الاهانة أو الهتك وشبه ذلك.
ومنها : آية (وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً[23]).
ومنها المراء والجدال (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[24]).
ومنها: كفران النعمة.
ومنها: التكبر بأقسامه.
ومنها: القعود مع فاعل المنكر (فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)[25].
ومنها: إفشاء السر، ففي صحيحة زرارة عن الإمام الباقر عليه السلام :المجالس بالأمانة[26].
ومنها : التفريق بين الأحبة كما في رواية ابن سنان عن الإمام الصادق عليه السلام.
ومنها:  الفخر.
ومنها: تعيير المؤمن.
ومنها: التجسس (وَلا تَجَسَّسُوا)[27]وحدوده.  
ومنها: التعصب للأمور الجاهلية كالقومية والاقليمية والعرقية، ففي صحيح هشام عن الصادق عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله: من تعصب أو تعصب له فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه[28].
ومنها: العجب، ففي صحيح الثمالي عن السجاد عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله:  ثلاث مهلكات هوى متبع وشح مطاع وإعجاب المرء بنفسه[29].
ومنها: سوء الظن بالله وبالمؤمنين.
ومنها: طلب الرئاسة .
ومنها:  آية (فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ)[30].
ومنها: تسمية غير علي عليه السلام بأمير المؤمنين.
ومنها: السخرية (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ[31]).
ومنها: الرد على العلماء (الراد عليهم كالراد علينا)[32] هل هو حرام مطلقاً أو في بعض الصور أو عدم الحرمة مطلقاً.
ومنها: الخشية من الكفار وغيرهم (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ[33]).
ومنها: حب الدنيا.
ومنها: إيواء العصاة.
ومنها:  إيذاء الجار.
ومنها: اتخاذ البطانة من غير المؤمنين (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ)[34].
ومنها: التوكل على الله (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ[35]).
ومنها: الهجرة (قالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها[36]).
ومنها: التعاون على البر والتقوى (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى[37]).
ومنها: الصلاة على النبي وآله صلوات الله عليهم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[38].
ومنها:  الاصلاح بين الأخوين (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ[39]).
ومنها:  الصبر والمصابرة (اصْبِرُوا وَصابِرُوا[40]).
ومنها: التدبر في القرآن الكريم (أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها)[41].
ومنها: رعاية الترتيب.
ومنها: بهت أهل البدع، فقد ورد في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وآله: (إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فأظهروا البرائة منهم وأكثروا من سبهم والقول فيهم والوقيعة وباهتوهم كي لا يطعموا في الفساد في الإسلام ويحذرهم الناس.
ومنها: التبشير (فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ[42]).
ومنها: العفو والإعراض عن الجاهلين (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ)[43].وغير ذلك من موارد[44]؛ وأغلب هذه الموارد بل كلها تقريباً رغم أهميتها البالغة الشديدة الأكيدة لم يتطرق لها مشهور الفقهاء بل كلهم إلا النادر[45]؛ ولا يعد ذلك دليلاً على عدم استفادتهم الوجوب أو الحرمة من الآيات والروايات الواردة مواردها،  بل عدم الذكر إما للغفلة أو لعدم كونهم في مقام الاستقصاء أو عدم القدرة بالابتلاء بمزاحمات أخرى ، أو لوضوح الأمر فيها أو لغير ذلك[46] كالاكتفاء بذكر كبرياتها في محالها أو لغير ذلك، أو لمجموع ذلك في مجموع الموارد وبعضها المذكور في علم الأخلاق لم يبحث عنه من جهة حكمه الشرعي عادة وبالاستناد إلى دليله من الآيات والروايات كما لا يخفى[47].
والثالث: ما ذكره الشيخ الأنصاري قدس سره  في الرسائل بقوله:( وحيث إن المختار عندنا هو الأول ذكرناه في الأصول العملية المقررة للموضوعات بوصف كونها مشكوكة الحكم، لكن ظاهر كلمات الأكثر كالشيخ والسيدين والفاضلين والشهيدين وصاحب المعالم كونه حكماً عقلياً ولذا لا يتمسك أحد هؤلاء بخبر من الأخبار... وأول من تمسك بهذه الأخبار فيما وجدته والد الشيخ البهائي فيما حكى عنه في العقد الطهماسبي وتبعه صاحب الذخيرة وشارح الدروس وشات بين من تأخر عنهم)[48] وقال (... لكن المتكلم في الاستصحاب من باب التعبد والأخبار بين العلماء في غاية القلة إلى زمان متأخري المتأخرين )[49] .
ثم قال قدس سره بعد ثلاث صفحات: ( وأهملوا قاعدة البناء على اليقين السابق لعدم دلالة العقل عليه ولا النقل بناء على عدم التفاتهم إلى الأخبار المذكورة لقصور دلالتها عندهم ببعض ما أشرنا إليه سابقاً، أو لغفلتهم عنها على أبعد الاحتمالات عن ساحة من هو دونهم في الفضل)[50]، فرغم أن الشهرة انعقدت على عدم دلالة الأخبار على حجية الاستصحاب وعلى عدم كونه حكماً ظاهرياً (لكن ظاهر كلمات الأكثر...) و(لكن المتكلم في الاستصحاب من باب التعبد والأخبار بين العلماء في غاية القلة) رغم ذلك استند الشيخ البهائي ثم الشيخ الأنصاري قدس سرهما إلى الأخبار على خلاف المشهور واعتبراها دالة على المراد، ولم يكن إعراض المشهور عن الاستدلال بها قرينة نوعية على عدم حجيتها ولا مانعاً عن استظهار فقيه آخر الحجية منها لأسباب عديدة:
منها:  احتمال كون إعراضهم عنها لغفلتهم عنها و لعدم تمامية سندها أو لعدم تمامية دلالتها عندهم كما قال قدس سره (... بناء على عدم التفاتهم إلى الأخبار المذكور لقصور...) ومنها عدم كون اجتهاد الفقيه حتى لو عضدته الشهرة حجة على فقيه آخر كما أوضحناه... بل آل الأمر إلى انعقاد شهرة المتأخرين على خلاف شهرة المتقدمين كما يشهد به قوله قدس سره (وشاع بين من تأخر عنهم) وكما يشهد به تتبع آراء الفقهاء بعد الشيخ قدس سره.
ومنها: إضافة إلى أنه ليس بناء الفقهاء على اعتبار من لم يتطرق لوجوب شيء، قائلاً بالوجوب ولا قائلاً باللاوجوب ، وكذا لا يعتبرون من لم يتطرق لمسألة ادعى فيها البعض أو المشهور الحرمة قائلاً بالحرمة أو عدمها.
ثانياً[51]: سلمنا بأن المشهور فهموا عدم الوجوب، لكن الشهرة ليست ظناً معتبراً باعتراف المشهور، فلو جعل عدم فهمهم الوجوب من الآية قرينة صارفة للظاهر عن ظهوره كان في ذلك مخالفة المشهور[52]، فموافقة المشهور في عدم دلالة الآية على الوجوب) لأنهم ارتأوا ذلك مخالفة للمشهور في الواقع، فالفرار من مخالفة المشهور - بالتزام عدم وجوبها-  مستلزم للوقوع في مخالفته ، فلو لم يكن هذا ذا محذور لم يكن ذاك أيضاً.
لا يقال: أن الشهرة الفتوائية جابرة وكاسرة حسب رأي المشهور، فالضعيف المنجبر بعمل الفقهاء حجة والصحيح المعرض عنه من قبل الأصحاب ليس بحجة.
لأنه يقال: أن الشهرة جابرة للسند وكاسرة له لا للمتن والدلالة ، قال الشيخ قدس سره في الرسائل : وما ربما يظهر من العلماء من التوقف في العمل بالخبر الصحيح المخالف لفتوى المشهور أو طرحه مع اعترافهم بعدم حجية الشهرة ؛ فليس من جهة مزاحمة الشهرة لدلالة الخبر الصحيح من عموم أو إطلاق ؛ بل من جهة مزاحمتها للخبر من حيث الصدور بناء على أن ما دل من الدليل على حجية الخبر الواحد من حيث السند لا يشمل المخالف للمشهور ؛ ولذا لا يتأملون في العمل بظواهر الكتاب والسنة المتواترة إذا عارضها الشهرة ؛ فالتأمل في الخبر المخالف للمشهور إنما هو إذا خالفت الشهرة نفس الخبر لا عمومه وإطلاقه، فلا يتأملون في عمومه إذا كانت الشهرة على التخصيص.
نعم، ربما يجري على لسان بعض متأخري المتأخرين من المعاصرين عدم الدليل على حجية الظواهر إذا لم تفد الظن أو إذا حصل الظن الغير المعتبر على خلافها، لكن الانصاف أنه مخالف لطريفة أرباب اللسان والعلماء في كل زمان[53].
هذا لو أغمضنا النظر عن المناقشة في مستند مبنى المشهور من ادعاء أن ما دل من الدليل على حجية خبر الواحد من حيث السند لا يشمل المخالف للمشهور، إذ لا وجه لهذه الدعوى مع عموم أدلة حجية خبر الواحد لمعارض المشهور، إذ الوجه إما الانصراف أو التخصيص أو أخبار مرجحات باب التعارض[54].
ومن الواضح فيما نحن فيه أن الآية (وشاورهم) قطعية الصدور، ظنية الدلالة، فالشهرة لا تضعف السند لقطعيته ولا الدلالة لأن محل الجبر والكسر هو السند لا غير.
ثالثاً: سلمنا بأن الشهرة ظن خاص معتبر لكن نقول: إن مقتضى القاعدة هو ملاحظة الدليل الذي أقامه الفقيه أو الفقهاء، ثم البحث عن سنده ودلالته وعدمها ومدى دلالته - على تقدير الدلالة - ومعارضاته ووجود مخصص أو حاكم أو وارد عليه فلو ترجح عنده أحد الطرفين كان رأيه حجة سواء وافق رأي الفقيه أو الفقهاء الذين أقاموا الدليل أم خالف وذلك هو مقتضى فتح باب الاجتهاد ومقتضى حجية رأي الفقيه كما لا يخفى، إضافة إلى كونه من ضروريات الفقه، إذ من الضروري عدم وجوب تعبد الفقيه برأي فقيه آخر أو رأي مشهور الفقهاء وعدم وجوب قبوله أدلة الفقهاء الآخرين تعبداً ووجوب التعبد برأي الفقيه منحصر في المقلد وفي صورة انسداد باب العلم والعلمي، وإيراث قول الفقيه الظن الشخصي مع عدم وجود طريق آخر لتحصيل هذا الظن.
وحينئذٍ فالشهرة وإن كانت ظناً معتبراً إلا أن ذلك لا يعني كونها علة تامة لوجوب القبول ، بل غاية ما في الباب أنها مقتضٍ له فلا يصح  الاعتماد عليها فوراً دون البحث عن المعارض وعن مدى دلالتها وعن الحاكم أو الوارد عليها.

وللتوضيح نقول: إن أدلة حجية خبر الواحد مثلاً إنما تصنع المقتضي لوجوب القبول وللحجية لا العلة التامة؛ ولذا قد يسقط خبر الواحد عن الحجية عند معارضته لظاهر الكتاب بنحو التباين كما في كثير من أخبار الجبر والتفويض والغلو، أو العموم من وجه في مادة الاجتماع  أو مطلقاً أو عند معارضته بخبر آخر له مرجح صدوري أو جهتي كما لا يخفى .
فإذا كان الحال هذا في خبر الواحد الذي ذهب الأكثر إلى حجيته فما هو الحال فيما ذهب الأكثر إلى عدم حجيته؟ ولأجل ذلك نجد أن العلماء في العمل بدليل ما اشترطوا الفحص عن معارضاته ومنعوا العمل بدليل- سواء في ذلك الظواهر أو أخبار الآحاد أو الاستصحاب بناء على أماريته أو الأصول- قبل ذلك ، وهل الشهرة مستثناة من هذه القاعدة؟ بحيث لو عثر فقيه على الشهرة الفتوائية أغناه ذلك عن البحث عن سائر الأدلة الموافقة والمخالفة، وبحيث لو عثر عليها أفتى على طبقها؟
إضافة إلى أن من الثابت في محله أن القطع لا غير حجة ذاتية يستحيل تخلف الحجية عنه؛ فإن الحجية ذاتية للقطع بذاتي باب البرهان حيث تنتزع من حاق ذات القطع بلا ضميمة خارجية، ولو انفكت عن القطع لزم التناقض وغيره من المحاذير على ما هو مذكور في بحث القطع، وأما غير القطع فحجيته غيرية جعلية يمكن تخلفها عنه بل يتحتم أن ابتلى بالمعارض الأقوى.
وإذا توضح ذلك اتضح أن انعقاد الشهرة على شيء -كعدم وجوب الشورى فرضاً - لا يلغى اجتهاد المجتهد ولا يعني عدم صحة استظهار فقيه الوجوب على خلاف رأي المشهور؛ ولذا جرت طريقة معظم الفقهاء على عدم الاستدلال بالشهرة وجعلها مؤيدة لا غير[55] وعلى ردّها بوجدان الخلاف ومعارضة النصوص[56].
ولأجل ذلك كله نجد على كر الأعصار قولاً مشهوراً وقولاً لغير المشهور، بل نجد المشهور في مسألة يخالفون -بعضاً أو كلاً- المشهور في مسألة[57] أو مسائل أخرى بنحو التفريق[58].
ولأجل ذلك كله نجد انقلاب الشهرة على الوفاق في موارد عديدة إلى شهرة على الخلاف في الأعصار اللاحقة، فمن ذلك حكمهم إلى زمان المحقق الثاني بأن بيع المعاطاة إنما يفيد مجرد الإباحة خلافاً للمفيد قدس سره حيث حكم بلزومه ، وإذ وصلت النوبة للمحقق الثاني قدس سره حكم بإفادته للملك المتزلزل واستقرت الفتوى بعده على ذلك[59].
وقال الشيخ قدس سره في المكاسب: والمشهور بين علمائنا عدم ثبوت الملك بالمعاطاة بل لم نجد قائلاً به إلى زمان المحقق الثاني[60].
ومن ذلك انعقاد شهرة القدماء إلى زمان الشهيد الثاني قدس سره على تنجس البئر بالملاقاة وأن المقدر في المنزوحات هو المطهر، ولكن استقرت الشهرة الفتوائية بعده على عدم تنجسه بالملاقاة وأن النزح مستحب[61].
ومن ذلك ما سبق من انعقاد الشهرة إلى زمان الشيخ البهائي على عدم دلالة أخبار الاستصحاب على حجيته أو على عدم الاستدلال بها، ثم انقلبت لتنعقد على اعتبارها هي الدليل[62] على حجيته ،فتأمل.
وكذا  انعقادها عند القدماء على كون الاستصحاب من الأمارات ثم اعتباره من الأصول ، فتأمل.
 وقد ذكر أحد كبار الأساتيذ موردين آخرين هما: مسألة نجاسة العصير العنبي إذا غلا ولم يذهب ثلثاه حيث كانت الشهرة على النجاسة ثم انقلبت إلى الطهارة ، ومسألة كون البراءة أصلاً أو أمارة حيث كانت الشهرة في السابق على كونها أمارة.
ومما يرشد إلى ما ذكرنا أيضاً: ما التزم به الكثير من الفقهاء من كون الشهرة الفتوائية جابرة للرواية الضعيفة السند، وكون الشذوذ كاسراً ومضعفاً للرواية الصحيحة السند! وما ذلك إلا لرجحان اتباع الأكثرية باعتبار أقربية نظرهم إلى الواقع من آراء الأقلية وكون إعراضهم أو استنادهم كاشفاً عن جهة رجحان أو خلل في الرواية وإن خفي علينا ذلك[63].


------------------

* * هذه المباحث الاصولية تجميع لما طرحه سماحة السيد الاستاذ في مختلف كتبه وبحوثه، قام باعدادها وجمعها و ترتيبها مشكوراً فضيلة الشيخ عطاء شاهين وفقه الله تعالى
[1] سورة آل عمران: 159.
[2] تفصيل هذه الإشكالات وأجوبتها مذكور في كتاب : شورى الفقهاء.
[3] لطفاً أو دخولاً أو حدساً أو تشرفاً - على الاختلاف في وجه حجية الإجماع.
[4] لا بأس بذكر مثال واحد لذلك، قال الآخوند قدس سره في الكفاية (ومعه) أي مع انحلال العلمي (لا موجب للاحتياط إلا في خصوص ما في الروايات وهو غير مستلزم للعسر فضلاً عما يوجب الاختلال ولا إجماع على عدم وجوبه ولو سلم الإجماع على عدم وجوبه لو لم يكن هناك انحلال) [الكفاية باب الانسداد ، المجلد الثاني ص116، وقال في الوصول دمجاً مع العبارة :( ولا إجماع على عدم وجوبه) فإن كثيراً من الفقهاء لم يتعرضوا لهذه المسألة أصلاً فكيف يمكن دعوى الإجماع. الوصول إلى كفاية الأصول : ج 3 ص375.
[5] أي عدم ذكر وجوب الشورى في كتبهم.
[6] الفرق بين هذا والسابق على سابقه أن ذاك كان لعدم كونهم في مقام الاستقصاء وهذا لأحد الجهات الأربع المذكورة ويمكن جعلهما واحداً بلحاظ كون عدم الذكر لإحدى الجهات الخمس.
[7] وقد فصلنا في موضع آخر قاعدة (إن العمل لا جهة له) فليراجع.
[8] إلا لو تعاضدت بحيث بلغت حدّ الإجماع فتأمل لكونه مستنداً أو محتملة.
[9] إن قلنا بكونها وجودية .
[10] إن قلنا بكونها عدمية.
[11] أي كونه حجة عند الآخرين أيضاً على تقدير وصوله.
[12] أي حجية تلك القرينة عندنا أيضاً وتمامية صارفيتها.
[13] وقد سبق ذكر هذا ببيان آخر.
[14] سورة الحشر: 7.
[15] سورة يوسف: 78.
[16] سورة الفرقان: 30.
[17] الكافي: ج2 ص244.
[18] سورة الضحى :10.
[19] سورة الأنفال:46.
[20] سورة النساء: 32.
[21] سورة الماعون: 7.
[22] سورة المدثر:6.
[23] سورة الإسراء: 37.
[24] سورة العنكبوت: 36.
[25] سورة الأنعام:68.
[26] الكافي: ج2ص660.
[27] سورة الحجرات: 12.
[28] الكافي: ج2 ص308.
[29] المحاسن: ج1ص3.
[30] سورة آل عمران : 37.
[31] سورة الحجرات: 11.
[32] الكافي: ج1ص67، مضمون ما جاء في مقبولة عمر بن حنظلة.
[33] سورة المائدة:3.
[34] سورة آل عمران: 118.
[35] سورة آل عمران: 122.
[36] سورة النساء:97.
[37] سورة المائدة: 2. .
[38] سورة الأحزاب: 56.
[39] سورة الحجرات:10.
[40] سورة آل عمران : 200.
[41] سورة محمد: 24.
[42] الكافي: ج2ص275.
[43] سورة الأعراف:199.
[44] يراجع لمعرفة التفصيل الإجمالي لهذه الموارد كتاب الواجبات المحرمات من دورة الفقه ولمعرفة تفصيلها تلاحظ مواضعها من دورة الفقه.
[45] في آيات الأحكام أو في مواضع متفرقة من كتب الفقه.
[46] كالاكتفاء بذكر كبرياتها في محالها أو لغير ذلك.
[47] ومما يؤيد ما ذكرناه هنا - من أن عدم الذكر يحتمل وجوهاً عديدة - وما سنذكره في الجواب الثاني.
[48] الرسائل: بحث الاستصحاب، ص319.
[49] نفس المصدر: ص344.
[50] نفس المصدر: ص347-348.
[51] هذا الرد الثاني للفرع الثاني المتقدم من الإشكال؛ وهو القول  (وإلا لذكروا وجوبها في ضمن الواجبات).
[52] إذ لا تعدو الشهرة أن تفيد ظناً شخصياً بالخلاف وما حجيته من باب الظن النوعي (كظواهر الألفاظ) لا يرفع اليد عن ظهوره مع الظن الشخصي بالخلاف.
[53] الرسائل ص44 عند الحديث عن عدم اعتبار الظن الشخصي في حجية الظواهر.
[54] أما الأول: ففيه أنه لو كان فهو بدوي إضافة إلى أن بناء العقلاء على الحجية مطلقاً.
وأما الثاني: ففيه أن النسبة بين أدلة حجية الخبر وأدلة حجية الشهرة هي العموم من وجه ، (أي بين الخبر والشهرة).
وأما الثالث: ففيه أنها مختصة بباب تعارض الأخبار لا تعارض خبر وشهرة ، فتأمل،  إضافة إلى النقض بجريان ما ذكر بالنسبة للمتن أيضاً بادعاء أن أدلة حجية الظواهر منصرفة عما لو خالفها المشهور أو مخصصة بغير صورة الخلاف.
منتهى الأمر أنه يقع التعارض بينهما لا أن المقتضي لحجية الخبر المعارض للمشهور غير موجود ، إضافة إلى أن بناء العقلاء على حجية خبر الواحد الجامع للشرائط إذا عارضته الشهرة الفتوائية في كل العلوم والصناعات، نعم قد يقدمون الشهرة ولكن لا من باب عدم المقتضي لحجية خبر الواحد حينئذٍ بل من باب ابتلائه بالمعارض الأقوى ، وكذا بنائهم على حجية الظواهر وإن خالفها فتوى المشهور، و يظهر ذلك لمن رجع إلى الخبراء في كل علم وفن حيث يتمسكون بظواهر الألفاظ وإن فهم منها المشهور غير ذلك، قال في أوثق الوسائل في شرح الرسائل: ( لا معنى لدعوى الإجماع على دلالة الألفاظ والظهورات العرفية، لجواز مخالفة هذا الإجماع بلا إشكال لمن ثبت عنده خلافه) ، فدقق.

[55] لا يخفى أن مرجع هذا إلى عدم حجية الشهرة عندهم.
[56] ومرجع هذا إلى أن حجيتها على القول به منوط بعدم المعارض الأقوى وكونها مقتضية لوجوب القبول لا علة تامة له إذ معارضة النصوص الشهرة فرع حجيتها وإلا لما تعارضا إذ لا تعارض بين الحجة واللاحجة حتى يقدم أحدهما على الآخر بالمرجحات.
[57] أو مسائل أخرى.
[58] بهذا القيد أجبنا عن إشكال قد يخطر بالبال فتدبر جيداً.
[59] أوثق الوسائل: بحث الإجماع المنقول، ص116.
[60] المكاسب: البيع، ص83.
[61] أوثق الوسائل: ص116.
[62] أو أحد الأدلة.
[63] شورى الفقهاء :ص 91.

 


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=3078
  • تاريخ إضافة الموضوع : 26 جمادى الآخرة 1439هـ
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28