• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : دروس في التفسير والتدبر ( النجف الاشرف ) .
              • الموضوع : 235- بناء القادة وتربية الكفاءات النموذجية وأبطال حول امير المؤمنين (عليه السلام) ( صعصعة بن صوحان) .

235- بناء القادة وتربية الكفاءات النموذجية وأبطال حول امير المؤمنين (عليه السلام) ( صعصعة بن صوحان)

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
(وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا )
(5)
بناء القادة وتربية الكفاءات النموذجية
وأبطال حول أمير المؤمنين (عليه السلام) (صعصعة بن صوحان)
مواجهة الكمية بالنوعية والكيفية
 
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ)([1])
وقال جل اسمه: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)([2])
 
بصائر نورانية ومواليد مباركة:
 
في هاتين الآيتين الكريمتين مجموعة من البصائر القرآنية نتناولها بمناسبة مولد امير المؤمنين (عليه السلام) وسائر الأئمة الميامين الذين ولدوا في شهر رجب الاصب.. شهر المغفرة والرحمة ، سائلين المولى عز وجل ان يجعلنا من المتمسكين بأذيال آل محمد (عليه السلام) وداعين بالفرج الاكبر للمؤمنين بل للعالم اجمع بتعجيل فرج سيد الكائنات الإمام المهدي المنتظر عجل الله فرجه الشريف.
 
البصيرة الاولى: هل الجعل في الآيتين إخبار ام انشاء؟
 
اما البصيرة الاولى فهي عن ان الجعل في قوله تعالى: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً...) وكذا في الآية الاخرى (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً...) هل هذا الجعل اخبار من قبل الله تعالى عن حصول جعل ونصب لهم (عليهم السلام) في زمن سابق؟ ام انه تعالى ينشئ الجعل والنصب بنفس قوله هذا (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ...)؟ ومنشأ الاحتمالين هو ان فعل (جَعَلَ) المستخدم في الآيتين فعل ماضٍ يَصلُحُ أن يراد به الانشاء كما يصلح ان يراد به الاخبارعن الجعل في أزمنة سابقة.
وكلا الاحتمالين جارٍ في حديث الامام الصادق (عليه السلام) إذ يقول: "فَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُهُ عَلَيْكُمْ حَاكِما"([3]) فانه يوجد الاحتمالان:
الاول: ان الامام(عليه السلام)   ينشئ جعلهم حكّاما بنفس هذا القول.
الثاني: انه (عليه السلام) يخبر عن جعله لحاكمية العلماء جامعي الشرائط من قبل، فيكون اخبارا عن انشاء سابق.
والامر كذلك في لفظ (بعتُ) فان الأمرين محتملان فيه، فقد يكون (بعت) إخباراً عن وقوع البيع في زمن سابق، أي يقصد الاخبار بانه باع داره مثلاً سابقاً، وقد يكون بعت إنشاءً كما هو المتداول في العقود، والقرائن المقامية هي التي تميز بين النوعين على رأي وان كان الادق في ذلك ما سنذكره ان شاء الله تعالى.
وكذا الحال في المرأة لو قالت: زوجتك نفسي فان المقام وكونها في مجلس العقد قرينة على ان المقام مقام الانشاء وايجاد العلقة الزوجية, ولكن قد تكون الجملة خبرية فيكون قصد المرأة الاخبار عن تزويجها نفسها قبل فترة من الزمن.
والمنصور: ان الاصل في مثل هذه الكلمات كونها إخباراً عن الإنشاء السابق، وقرينة المقام في الامثلة المذكورة هي التي تصرف الكلمة إلى الانشاء وإرادته، إلا ان هذه القرينة المقامية والتي تدل على إنشائية الكلمة غير متوافرة في الآيتين الشريفتين – كما سنرى - ولذا فالظاهران المقام فيهما مقام الاخبار عن جعل سابق الهي.
 
قوله (إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ...) اخبار أم إنشاء؟
 
والاحتمالان جاريان في الآية المباركة الاخرى وهي قوله تعالى (إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) فهل الولاية الالهية الممنوحة لهم (عليهم السلام)، قد جعلت بنفس هذا الكلام، أم انها مجعولة في مرتبة سابقة والآية الشريفة تحكي وتخبر عن ثبوت تلك الولاية؟
وبعبارة اخرى: ان الانشاء بمعنى ان الله يجعل الولاية للرسول وللائمة (عليهم السلام) بنفس هذا القول، واما الاخبار فيعني ان الله تعالى يخبر بذلك.
ولنوضح ذلك بمثال يقرب المطلب فتارة تقول لشخص: انت وكيلي، قاصداً بذلك الانشاء أي انك تجعل له الوكالة بهذا اللفظ، ولكنك تارة اخرى تقصد الاخبار بذلك عن انه وكيل لك، وكذلك لو قال انما انت متولٍ من قبلي فان كلا المعنيين ممكن.
ولكن الظاهر ان المراد في قوله تعالى (إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ) الاخبار فانه اضافة الى ان ذلك هو مقتضى الاصل او الظهور والانشاء يحتاج الى مؤونة زائدة، إضافة إلى ذلك نجد:
 
الولاية لله مناسبة للإخبار لا الانشاء
 
ان هناك قرينة في نفس الآية المباركة تؤكد إخبارية (إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ) لا انشائيته وهي: ان الآية قد صدرت بذكر الولاية لله، وذلك قرينة واضحة على ان الاية في مقام الاخبار وليس الانشاء؛ إذ الإنشاء لا معنى له في ولاية الله أبداً، ومعه فيكون المراد هو الاخبار عن ولاية الله تعالى التكوينية والتشريعية الثابتة منذ الازل، فتكون ولاية الرسول والأئمة كذلك.
والتفكيك في المقام بالقول انها اخبارية بلحاظ ولاية الله تعالى، وانشائية بلحاظ ولاية الرسول والأئمة (عليهم السلام) وان لم يكن ممتنعا لامكان وصحة استعمال اللفظ في اكثر من معنى كما نراه، الا انه خلاف الظاهر من الآية جداً.
والأمر كذلك في قوله تعالى: ( وكذلك جعلناهم ائمة يهتدون بأمرنا) فالظاهر اضافة الى الاصل: انه اخبار عن الانبياء السابقين وكون الله سبحانه وتعالى قد جعلهم في فترة زمنية سابقة أئمةً، لا ان هذا الجعل – جعلهم أئمة - قد ثبت في زمن المصطفى ووقت نزول الآية المباركة، كما هو مقتضى الذهاب إلى إنشائية (جعل).
 
البصيرة الثانية: القضية في الآية الكريمة حقيقية وليست خارجية:
 
وذلك كله هو المدخل لبحث آخر يرتبط بعمق الغاية والهدف من هذا البحث وهو:
ان القضية في الآية الشريفة هي قضية حقيقية، وليست بقضية خارجية في مجمل ابعادها، وكما هو معلوم فان القضية الحقيقية هي تلك التي تحطم حاجز الزمن، وتكون مهيمنة على كل الازمان، واما القضية الخارجية فهي ما كانت مختصة بزمن ما، كالزمن الحاضر أو كانت تختص بالزمن الماضي، على سبيل البدل وذلك كقولك (جئني بمن في البيت) أو (قتل من في العسكر).
 واما اذا كانت القضية غير مؤطرة ولا مقيدة باطار زمني فهي قضية حقيقية، يكون الحكم فيها ثابتا لطبيعي الموضوع من غير فرق بين الأزمنة، وهذا على حسب أحد التعريفين للقضية الحقيقية والخارجية([4])على كلام مفصل ذكرناه في موضعه.
والمهم: ان القضية في الآيات الشريفة (إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ...) و(وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً...) و(وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً...) هي قضية حقيقية وليست خارجية، وعليه فالإمامة الالهية المجعولة لهم ليست خاصة بزمنهم، بل سارية في جميع الازمان بل ثابتة لهم بما هم هم.
 
1- لأنهم (عليهم السلام) الخلفاء للنبي (صلى الله عليه وآله) الخاتم للرسالات
 
والامر واضح ايضا في الاوصياء (عليهم السلام)؛ فان الائمة(عليهم السلام) هم الاوصياء للنبي الخاتم الى اخر الازمنة فهم ائمة على امتداد الزمن، فكونهم أئمة وولاة هي قضية حقيقية وليست خارجية.
اذن: امامة الائمة وكذا الانبياء ثابتة على مدار الزمان فليس من الصحيح القول: ان امامة الائمة الماضين قد انتهت، وليس الامام إلا الحاضر نعم تبقى هناك خصوصيات للإمام الحي الحاضر فان الولاية الفعلية التنجيزية بيده على تفصيل مذكور في بحوث الإمامة.
نعم نفرق بين امامة الامام وشريعته، فالشريعة قد تكون مؤطرة باطار الزمن إلا ان الامامة ممتدة مستمرة مطلقة، كما هو الحال مثلاً في خليل الله ابراهيم (عليه السلام)؛ إذ انه لا يزال إماماً، وان كانت بعض شريعته قد نسخت، وعلى حد قول السيد الوالد فإننا لا نحتاج لإثبات استمرار حكم الى الاستناد إلى استصحاب الشرائع السابقة إلا ان يأتي دليل على الخلاف، بل انه يرى ان نفس عمومات أدلة أحكام الشرائع السابقة هي شاملة للازمنة اللاحقة وبنحو القضية الحقيقية – بنظره (قدس سره) - فكيف والحال ان كلامنا في الامامة والامام؟!
ولهذا الكلام بحث تخصصي يترك لمحله.
 
ب- وللعمومات والإطلاق الزماني
 
والدليل الاخر لاثبات ان امامتهم هي بنحو القضية الحقيقية وانها مطلقة غير مقيدة بزمن، في المقام هو: ما مضى في البحث الماضي من مقتضى الاطلاقات الثلاثة: الازماني والمكاني والاحوالي، والعمومات فان ذلك يبرهن ان جعل الائمة انما هو على نحو القضية الحقيقية وعلى مدار الازمنة، ومن ادعى التقييد فانه لابد ان يأتي بالدليل عليه أي على التقييد الزماني كما هو الحال – أي التقييد الزماني -  في السيدة مريم (عليها السلام) حيث دل الدليل على تقييد أفضليتها بكونها افضل نساء زمانها، فقد ذكر القيد و قام الدليل على ذلك.
والحاصل: ان ظاهر اللفظ والحكم عندما ينصب على الطبيعي ان الزمن هو ظرف له لا قيد، ولأجل ذلك نحكم ان فاطمة الزهراء (عليها السلام) سيدة نساء العالمين على مر التاريخ وذلك لأنه لم يرد قيد ولا تحديد بسيادتها العالمية، فهي سيدة النساء في جميع الازمان والعوالم والاماكن.
 
ج – ولأن وظيفتهم هي الهداية عبر الأزمان
 
واما القرينة الاخرى على كون امامتهم (عليهم السلام) هي على نحو القضية الحقيقية فهي ان الله تعالى قد جعل وظيفتهم  هداية الخلق بأمره، وهذه الهداية التي كلفوا بها هي هداية عامة لكل الازمان وليست خاصة بزمن خاص ولذلك أيضاً كان علمهم شاملاً غير محدود بزمان أو مكان، قال تعالى: (وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ)([5]).
وحال بعض الانبياء كذلك؛ إذ ان هدايتهم للخلق اخترقت حاجز الزمان فكانت نوراً امتد ليشمل الكون كله على امتداد الازمنة ولذا نجد ان النبي ابراهيم(عليه السلام)  يخاطب الله جل وعلا فيقول: (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ)([6]).
 
إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) عبر نهج بلاغته وهدايته:
 
كما نجد ان أمير المؤمنين(عليه السلام)  في نهج حكمته وبلاغته وروح دعوته وهدايته قد سطر كلماته الخالدة على امتداد التاريخ إذ ترك من بعده الحجة البالغة العظمى بعد القرآن الكريم والتي يحتج بها على العقلاء كما يحتج بها العقلاء على مدى الأزمان والأمكنة وفي مواضيع بلغت الغاية في الأهمية والحيوية، والتي نجد مجتمعاتنا اليوم بأمس الحاجة الى طرحها بل واتخاذها نهج حياة وإلى توجيه الأمة نحو تبنيها والالتزام بها: مواضيع مثل: النزاهة والفضائل والعدل والعفو والصفح والاحسان والحكمة والمحبة للرعية وغيرها.
 
إمامته (عليه السلام) عبر سيرته
 
كما نجد ان سيرة على(عليه السلام)  والتي كانت الامتداد المكمل لسيرة النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله)، هي مصداق جلي لقوله تعالى: ( يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا) وعلى مر التاريخ، بل اننا نجد ان هذه السيرة الوضائة تختزن في داخلها دروساً وعبراً مفتاحية لجميع القادة على امتداد الزمان.
والحاصل: ان سيرة النبي الاكرم وأهل البيت (عليهم السلام) وكلماتهم هي سبيل الهداية على مر الازمان وعلى امتداد مساحات الاكوان.
البصيرة الثالثة: فعل الخيرات في منبسط الأزمان
والآية تستبطن إحدى أهم الحقائق في بصائرها ومداليلها حيث جاء فيها (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ)([7]) فان فعل الخيرات عام شامل مطلق لجميع الازمنة فهم (عليهم السلام) إذاً مكلفون بفعل الخيرات لا لأزمنتهم فحسب بل لكل الأزمنة وعلى امتداد المستقبل الممتد الطويل، في حدود القدرة والامكان.
ومن هنا ننطلق في اشارة سريعة ربما نتوقف عندها طويلا في بحث آخر وهي: هل نحن موظفون بهداية الناس في هذا الزمن فحسب؟  لعل هذا هو المتبادر الى الاذهان والمستأنس لدى الكثير، إذ قد لا ينقدح في أذهان الكثيرين أن عليهم أيضاً مسؤولية هداية الناس الذين سيولدون بعد مئة عام أو ألف سنة أو أكثر؛ إذ ان الانسان عادة ما يعيش في سجن الزمن وحدوده الضيقة ولا يلتفت الى هذه المعادلات حيث انه انحشر في شرنقة المكان والزمان فعطل باستسلامه لهذين السجنين: سجن الزمان والمكان القدرات الخلاقة التي أودعها الله تعالى فيه. والتي بموجبها يمكن للإنسان ايضاً ان يكون شمس هداية حتى للأجيال القادمة ولسنين متمادية، وقد نقل عن أمير المؤمنين (عليه السلام):
وَتَحْسَبُ أَنَّكَ جِرْمٌ صَغِيرٌ      وَفِيكَ انْطَوَى الْعَالَمُ الْأَكْبَر([8])
 
التخطيط البعيد والاستراتيجية المعمقة :علم المستقبل
 
وهنا لنتوقف لنسأل أنفسنا: من منا ذلك الذي خطط لهداية الناس في حياته وأيضاً بعد وفاته بخمسمائة سنة مثلا؟!
ان غاية ما يفكر به البعض منا هو الهداية لأهل محلته او بلدته او اكثر أو أقل لكن في إطار الزمن الراهن المعاصر اما البعض الآخر فانه بشعاع الفكر الثاقب ونور الهداية الباصرة تجاوز قيود الزمن وحدوده وسدوده ليكون من صناع المستقبل حتى البعيد منه وذلك عبر طرق وسبل ومنها: ان يقوم بتربية 500 إنسان او ألف تربية نموذجية ويربيهم على منهج تربية الآخرين فتقوم هذه المجموعة الطيبة بدورها بتربية شرائح واسعة من الامة في مسيرة الامتداد والعطاء للسنين القادمة، وهذه الشرائح بدورها تُوجَّه لكي تكون هي المربية لمجاميع أخرى وهكذا دواليك، ومع الاسف الشديد فان القليل منا يفكر ويخطط ويبرمج لكي يحوّل ذلك إلى واقع عملي.
ان محاولة صناعة المستقبل بالهداية والارشاد ومن قبل استكشاف آفاقه له طرق وآليات وسبل مقننة، فان الله تعالى قد جعل لكل شيء سببا وطريقا, ومن ذلك علم المستقبل فان له الكثير من العلامات والامارات الكاشفة للمستقبل والتي أودعها الله تعالى في صفحات الحياة، وهذه الامارات التكوينية الكاشفة عن المستقبل حالها كما هو الحال في الفقه والاصول؛ فكما جعل الله تعالى حججاً وإمارات وأدلة على الاحكام الشرعية وموضوعاتها فان الله تعالى أيضاً في البعد التكويني واستشراف المستقبل والمعرفة بما سيكون الحال عليه آنذاك قد جعل امارات ودلالات وعلامات وعلى الانسان ان يكتشفها وعلى ضوئها يرسم مخططاته لصناعة المستقبل المشرق السعيد.
 
الامر بالمعروف والنهي عن المنكر غير مقيدين بالزمن الحاضر
 
الآية المباركة – وكما سبق – يستفاد منها ان فعل الخيرات التي اوحيت من الله للأمام (عليه السلام) ليست خاصة بزمن معين ولا بطائفة معينة بل ان الامر بالمعروف والنهي عن المنكر والارشاد والهداية واجب مطلق يتجاوز حدود المكان ويتعالى على قيود الزمان.
ومن الشواهد على ذلك اننا لا نجد في الرسائل العملية للمراجع العظام: ان احد الشروط والقيود لواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الزمن الحاضر إذ نجدهم يصرحون ان من شرائط الأمر والنهي احتمال التأثير ومعرفة المعروف والمنكر وما إلى ذلك لكنهم لا يذكرون من الشروط ان يكون تأثير الأمر والنهي حالياً فلو كان أمره بالمعروف يؤثر في التزام الطرف الآخر به ولو بعد سنة أو عشر سنين لوجب الأمر والنهي. اللهم إلا ان يدعى الانصراف وفيه ما لا يخفى.
 
كفاية احتمال التأثير الفردي الآني والنوعي التراكمي:
 
من هنا نقول: ان الامر بالمعروف والنهي عن المنكر واللذان هما من فعل الخيرات، غير محدودين بالزمن.
وانطلاقاً من ذلك نستكشف ان اشتراط (إحتمال التأثير) في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويكتفى فيه فيشمل ما اذا اديا الى تأثير مستقبلي ولو بنحو تراكمي، بمعنى انه لو قطع الشخص بعدم تأثير كلامه الآن فقد يتوهم ان الامر بالمعروف في ذلك المورد لغو لأنه غير مؤثر ولكنه غير صحيح إذ قد يكون مؤثراً بملاحظة التأثير التراكمي على الشخص وعلى النوع في موردهما؛ إذ لعل الشخص لا يرتدع لو ذُكّر حتى لألف مرة ولكنه بعد ذلك – وبعد الألف مرة - يلتزم وينصاع الى تعاليم الشريعة السمحاء وهنا نرى وجوب الأمر والنهي إلا فيما أحرز الانصراف عنه؛ ولذا نجد ان بعض الفقهاء كالسيد الوالد (قدس سره) يرى ان هذا الاحتمال منجز، وانه سبب لثبوت الحكم في ذمة وعنق المكلف.
وعلى أي حال: ليس الزمن من شروط الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلو احتمل ان فاعل المنكر يرتدع في المستقبل من فعله بسبب نهيه الفعلي، لوجب ذلك وإن كان التأثير الفعلي صفراً أو منعدماً.
ولنذكر مثالاً واضحاً من دائرة المستقلات العقلية وهو: ان دفع القتل عن المؤمن لا شك انه واجب، والظاهر انه لا فرق بين كونه دفعاً لقتل سوف يحدث بعد ساعة أو دفعاً لقتل سوف يحدث بعد سنة أو أكثر، فلو تمكن الشخص ان يضع خطة تحول دون وقوع القتل في المستقبل فمثل ذلك واجب، لانطباق العمومات ودعوى الانصراف بعيدة جداً وعلى خلاف القاعدة، إضافة إلى وضوح عموم الملاك إذ من المعلوم ان الشرع أراد عدم وقوع قتل المؤمن خارجا وقد علم من الشارع كراهة وقوعه ووجوب منعه ودفعه، ومعه فالتكليف منجز.
 
الواجب أمران: هداية هذا الجيل وهداية الأجيال الصاعدة
 
فتحصل من ذلك: ان الواجب أمران: أ- هداية الناس في هذا العصر وإبلاغهم رسالات الله ودينه، ب- هداية الناس في الاعصار اللاحقة وتبليغ الأجيال القادمة ولو بعد المئات من السنين رسالات الله (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ)([9]) و(ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ)([10]) ويبقى بعد ذلك البحث عن السبل والطرق المقننة فانها هي المدار في تثمير الجهود.
 
لنتعلم من الأنبياء والأوصياء صناعة المستقبل
 
ولقد قام الانبياء (عليه السلام) قد قاموا بهذا الدور الاستراتيجي العظيم أي دور الهداية والإرشاد والتبليغ حتى للأجيال القادمة وكذا الائمة (عليه السلام) وسيدهم امير المؤمنين (عليه السلام) قاموا بدور الهداية المستقبلي أيضاً.
بل ان كل انسان حكيم ينبغي ان يجعل في خلده ان يكون من صنّاع المستقبل صناعة خير وهداية وإرشاد، وليس مكتشفا له فقط؛ فان الانسان يستطيع – عبر الآليات والطرق المعينة – ان يواصل حركته الارشادية ونتاجه الدعوي والتبليغي حتى بعد وفاته أيضاً.
وهذا ما نلاحظه في سيرة الأئمة (عليهم السلام)، فان الائمة (عليه السلام) برغم ما كانوا يعانونه من حصار الحكومات الجائرة المستبدة التي احتكرت كل القدرات والامكانات إلا انهم كانوا يخططون لمستقبل الاسلام وانتشار التشيع والحق والتمهيد للمقدمات الموصلة الى مرحلة (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)([11])، وكما ان الأئمة (عليهم السلام) كانوا مبتلين بحكومات جائرةٍ حاقدة إلا ان ذلك لم يمنع من وضع خطط مستقبلية، كذلك شيعتهم عليهم ان يتأسوا بهم في التخطيط للمستقبل وان كانوا يعانون من أمثال تلك الحكومات الجائرة.
ويكفي ان نضرب لذلك مثالاً هذه الدولة المسماة ظلما وجورا بالسعودية (وهي بلاد الحجاز) فان مئات المليارات من الدولارات وقعت بيد اناس متطرفين لا يعرفون الله ولا رسوله ولا يقيمون إلاً ولا ذمة لمسلم، والدخل السنوي لهذا البلد يزيد في بعض السنين على مئتي مليار دولار يصرف الكثير جداً منها في نشر المذهب الوهابي المتطرف الذي يكفر عامة المسلمين وفي دعم الارهاب وقتل الانفس المحترمة، ولعل أموالهم وخططهم الجهنمية كانت – بشكل مباشر أحياناً وغير مباشر أحياناً أخرى – كانت وراء قتل الملايين من الناس خلال المئتي سنة الاخيرة وهكذا نجد ان كل القدرات الظاهرية من الاموال والمنابر الاعلامية الشيطانية هي بيدهم وأيضاً التحالف مع أعداء الإسلام من القوى الصهيونية وغيرها.
وفي مقابل ذلك ما الذي يستطيع ان يفعله رجل دين عادي؟ الجواب بكلمة: هو مواجهة الكم الهائل بالكيف والنوعيات النموذجية المتميزة كما سيأتي بيانه.
 
أكثر من مليون طالب في باكستان وحدها! فما العمل؟
 
واضرب لكم مثالا آخر فان عدد المدارس في هذه البلدة الطيبة، لعله يبلغ 70 او 80 مدرسة دينية فلنقارن ذلك مع عدد المدارس التي أسسها أهل العامة في باكستان وحدها، والكثير منها كان بتمويل أو دعم سعودي.
فقد قام مركزا دراسات تابعان لجامعتين من أشهر الجامعات في بريطانيا وامريكا بإرسال فريقين متخصصين لمسح عدد المدارس المفرخة والمولدة للفكر الارهابي والتي انتجت طالبان والقاعدة وداعش وغيرها، واستمر المسح لسنين متعددة إذ تم مسح باكستان شرقا وغربا وشمالا وجنوبا.
وقد قدّر احد المركزين عدد المدارس في باكستان وحدها بـ 45 ألف مدرسة!!.
اما المركز الآخر فقد خمّن عدد المدارس بـ 43 ألف مدرسة دينية!، ولعل سبب الاختلاف هو كثرة القرى الصغيرة المنتشرة في أطراف الباكستان وصغر حجم المدارس الموجودة فيها ما لم يضعها في الحسبان هذا الإحصاء الأخير.
واما عدد الطلاب الذين يدرسون في هذه المدارس فيتراوح بين مليون ونصف المليون الى مليونين من الطلبة والفراخ الارهابية، وفي قبال ذلك وفي حاضرة العلم مدينة امير المؤمنين (عليه السلام) النجف الاشرف والحوزة الكبرى لعل العدد كل العدد لا يتجاوز 15 ألف طالب، فانظر الفرق.
وبيت القصيد هو: ان هناك دولاً أساسية كالسعودية وقطر إضافة إلى مجموعة كبيرة من التجار ورجال الاعمال والجهات الدولية تصرف الاموال الطائلة لنشر التطرف وترويج الفكر الشيطاني الذي يتهم كافة المسلمين – ألا الوهابيين - بانهم كفرة ومشركون وليس سوط تكفيرهم مختص بالشيعة فقط.
ولقد كان الأمر كذلك على مر التاريخ فانه على امتداد الزمن كان الحكام الظلمة هم المسيطرون، وكان من نتائج ذلك المؤلمة ان أمير المؤمنين (عليه السلام) علياً – وهو يعسوب الدين وسيد الموحدين - يُسَبّ على سبعين ألف منبر, بل جاء في رواية صحيحة من طرق العامة انه صلوات الله عليه كان يُسَبّ على 90 ألف منبر، ولقد كان للإعلام المعادي لأهل البيت (عليهم السلام) تأثيره الكبير حتى ان أهل الشام عندما سمعوا ان عليا (عليه السلام) قتل في محراب العبادة تعجب قسم منهم وقالوا أكان علي يصلي؟!
وذلك على الرغم من ان علياً (عليه السلام) قد تربى في حضن النبوة وكان الساعد الأيمن لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وكان باب مدينة علمه وبالرغم من فضائله الكثيرة المعروفة والمجمع عليها بين الفريقين وبالرغم انه هو الذي قال فيه الرسول (صلى الله عليه وآله) "لَضَرْبَةُ عَلِيٍّ يَوْمَ الْخَنْدَقِ أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ الثَّقَلَيْن‏"([12]) والآيات والروايات المتواترة تشهد بمفاخره وفضائله وامتيازاته، لكن الإعلام المضلل الممنهج من قبل أعداء الدين والنبوة والإمامة أوهم الناس خلاف ذلك حتى يستغرب بعضهم ويقول: او كان علي يصلي؟؟
 
الدواء الناجع والاكسير الاعظم: مواجهة الكمية بالنوعية والكيفية
 
وفي مقابل تلك القدرات الكمية الرهيبة، على المؤمن ان يتوجه بكل قوة نحو الكيفية إذ بها يمكنه ان يقارع جهة الكم، فليكن لديهم مئة الف طالب أو حتى مليون طالب، لكن ليكن لنا في مقابلهم مجموعة من أمثال الشيخ الانصاري والمقدس الاردبيلي. والعلامة المجلسي ومن قبلهم الشيخ الكليني والصدوقان والمفيد وشيخ الطائفة الطوسي والعلامة الحلي والمحقق الحلي والسيد ابن طاووس والشهيد الاول والثاني وصاحب الجواهر رحمهم الله تعالى جميعاً ومن اشبه، فان الواحد منهم يعادل بل ويفوق مئات الالوف من الجهة المقابلة.
 
تسطيح الحوزة خطر عظيم
 
ومن هنا ولنعيد التوازن بين قدرتهم الكمية وبين علمنا المحدود جداً كمياً، فاننا ندعو إلى عدم تسطيح الحوزة أبداً، وذلك لانهم في حساب الكم والعدد هم الأقوى على الإطلاق فلا بد ان نقابل ذلك بان يكون الميزان النوعي والكيفي عندنا وبجنبنا ما يستدعي الاجتناب عن تسطيح الحوزة الذي يعني تضعيف الجانب الكيفي.
ويكفي إلقاء نظرة على اعداد مؤسسات المسيحية والأديان الاخرى وعلى اعداد علمائهم ورجال دينهم ومقارنتها مع اعداد مؤسساتنا ورجال ديننا فاننا سنجدهم يفوقوننا عدد بما لا قياس، فلا سبيل أجدى وأنفع لمواجهة حركتهم الكمية الفائقة العدد، من تبني العمل الكيفي، والاتجاه صوب المنجزات ذات الكيفية العالية من خلال الحوزات العلمية المباركة لتنتج فطاحل في العلم والمعرفة والعمل الاجتماعي والإصلاحي، ليحصل التكافؤ في المواجهة بل التفوق، وذلك ما يقوم تسطيح الحوزة بالإجهاض عليه إلى حد بعيد.
 
قيس بن سعد بن عبادة.. جيش متحرك وامة في رجل
 
وهنا نذكر مثالا معبراً عن ميزان النوع والكيف اذا ما قورن بالكم والعدد، فان معاوية عندما اخبر بان قيس بن سعد بن عبادة التحق بجيش امير المؤمنين (عليه السلام)، قال معاوية: ما غاظني انكم امددتم علياً بمائة ألف سيف كما غاظني ان قيساً بوحده التحق بجيش علي؟ وهذا يعني ان فرداً واحدا ذا مستوى عالٍ من الكفائة والقدرة يفوق أهمية وميزاناً مائة ألف شخص عادي بحيث يخيف أعداء الله أكثر منهم جميعاً.
إذن فليعمل العتاة التكفيريون على تربية مئات الألوف من الطلاب التكفيريين ومن خريجي جامعاتهم التي تبني على التطرف كجامعة أم القرى مثلاً، ولكننا في قبال ذلك إذا عملنا على تربية 100 شخص وعالم من أمثال الشيخ الطوسي والعلامة والمحقق الحليين والشهيدين والشيخ الانصاري والمقدس الأردبيلي فان كفتنا ستكون الأرجح بما لا قياس.
وعلينا ان نستمد العون في ذلك من الله ومن أمير المؤمنين (عليه السلام).
 
العلامة البلاغي بحر متلاطم:
 
وفي مثال آخر يكشف عن أهمية العمل الكيفي وجدوائيته الكبرى في مواجهة قوى الضلال والانحراف التي ضربت الرقم القياسي في التفوق الكمي، نستحضر إلى الذاكرة العلامة البلاغي (قدس سره)، إذ انه استطاع ان يطبق بفكره وعلمه اجواء العلم والمعرفة حتى بهر علماء المسيحيين واليهود في الغرب والشرق بقلمه وبفكره وبأسلوبه الابداعي حتى نقل ان كنائس لندن – عندما وصلها نبأ وفاته ورحيله – أعلنت ذلك اليوم يوم فرح وسرور، لانهم كانوا يعرفون مدى عظمة هذا العالم الكبير وعمق فكره ونفاذ بصيرته وابداع اسلوبه، ومدى تأثيره في الأوساط الأخرى.
وصفوة القول: ان من آليات صناعة المستقبل – فوق اكتشاف المستقبل - تربية الكفاءات المتميزة، وبذلك يمكننا ان نكسب المستقبل بعد صناعته في الحاضر.
 
صعصعة بن صوحان العبدي.. تلميذ متميز في الجامعة العلوية الربانية
 
وهنا نتوقف قليلاً عند نموذج مشرق من الذين تحلقوا حول أمير المؤمنين ممن تجسد فيهم البعد الكيفي والسمو النوعي حتى أصبحوا مضرب الأمثال، وهو صعصعة بن صوحان العبدي، وهو الذي رباه علي (عليه السلام) وجعل منه نموذجا رائعاً يعادل مئات الألاف من الناس ويرجح عليهم، كما يستكشف ذلك من تعبيرات المعصومين (عليهم السلام) عنه:
 
كان صعصعة يعرف حق أمير المؤمنين (عليه السلام)!
 
أ- فقد قال الامام الصادق (عليه السلام) عن صعصعة بانه: "ما كانَ مع أميرِالمؤمنينَ عليه السلام من يَعرِفُ حَقَّهُ إلّا، صَعْصَعَة وأصحابه"([13])، وهي عبارة عجيبة لابد ان يتوقف عندها كثيرا إذ انها صادرة من لسان العصمة وجوهر الصدق ممن قد احاط بخفايا وزوايا الانفس فلاحظ كلامه (عليه السلام) مرة أخرى: "ما كانَ مع أميرِالمؤمنينَ عليه السلام من يَعرِفُ حَقَّهُ إلّا، صَعْصَعَة وأصحابه" ومن ذا الذي يعرف علي (عليه السلام)؟! بل المسلم ان مئات الملايين من الشيعة لا يعرفون حق أمير المؤمنين (عليه السلام) ومقامه ومنزلته ومكانه عند الله تعالى كما يعرفه صعصعة وسلمان والمقداد وأمثالهم.  
والظاهر ان هؤلاء الخاصة والثلة هم الكيف الاستثنائي النادر والنموذج الرباني الفريد الذي لعل الفرج المقدس والظهور الاعظم يتوقف على وجود أمثالهم من العظماء ذوي المعرفة السامية العالية.
 
وكان كثير المعونة خفيف المؤونة!
 
ب- وفي كلمة ثانية تدل أبلغ الدلالة على عظمة صعصعة، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) مخاطباً صعصعة: "وَأَنْتَ يَرْحَمُكَ اللَّهُ فَلَقَدْ كُنْتَ خَفِيفَ الْمَؤونَةِ كَثِيرَ الْمَعُونَة"([14])
ولو دققنا النظر في هذه الكلمة لوجدناها وسام شرف لصعصعة وأي وسام شرف! فهي عبارة تكتنز العطاء والانتاج والعظمة لتلك الشخصية؛ فهو خفيف المؤونة كثير المعونة.
ولكي تتضح لنا جوانب من دلالات هذه الجملة، نشير إلى بعض الأمثلة التي تعد تجسيداً مصغراً لهذه الصفة أو لنقيضها:
أ- ما نلاحظه في بعض الناس من انه كثير المؤونة قليل المعونة! وقد يظهر هذا الواقع في بعض الاجتماعات او المجالس من بعض الاشخاص حيث يكون لهم الصخب الكثير والكلام الرنّان، ولكنه من ناحية العطاء العملي والواقع المصداقي لا يكاد يفعل شيئاً!.
ب- وفي قبال ذلك نجد من هو قليل الكلام كثير العطاء، فمثلاً نشاهد ان البعض قد يدفع تبرعا لحسينية او لمسجد بمقدار مليون أو مليوني دينار ثم يتبجح وينقل الخبر هنا وهناك، في قبال البعض الاخر الذي قد يدفع عشرات الملايين – أو أكثر - لمدرسة او مكتبة أو مسجد ولكن بصمت مطلق إذ انه يتعامل بقناة خالصة مع الله تعالى.
 ج- وفي المجتمع والاسرة نجد شواهد كثيرة ونماذج من الطرفين فنرى بعض الناس خفيف المؤونة غير ثقيل على عياله وأهله وأقربائه وهو مع ذلك يعمل كالماكنة باستمرار وبهدوء وصمت, كما نرى بعض النساء الصالحات يعملن في البيت ليل نهار فتهتم بالأطفال وتربيهم تربية نموذجية وتدبر شؤون المنزل كلها وتملأ أرجاء الدار بالسكينة والسعادة بدون قيل او قال وصخب وضجيج وتبجح بل تكون (كثيرة المعونة خفيفة المؤونة) لا تتوقع من زوجها الكثير وتمنحه والأولاد الكثير الكثير.
د- والمثال الجميل والمعبر عن ذلك هو: نموذجا الصدف والدجاجة، فان الصدف يحتوي على الدر واللؤلؤ الثمين ولكن بدون ضجيج وصراخ وصخب، بخلاف الدجاجة فانها اذا ارادت ان تبيض بيضة واحدة تجدها تملأ الافق صراخا وصياحاً!!.
وهكذا كان أصحاب الإمام علي (عليه السلام) ومن رباهم فقد تأسوا به إذ كان هو بنفسه (عليه السلام) كثير المعونة بما لا يرقى إليه عقل بشر، لسيد الكائنات النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) وعلى امتداد الزمن وفي ظل مسيرته الدعوية الجهادية.
والجدير بنا ان نبذل قصارى جهدنا لكي نتأسى بهذه النماذج الربانية في حياتنا العملية فنكون عند الله وعند الأولياء من مصاديق (كثير المعونة، قليل المؤونة).
 
وكان: الخطيب الشحشح! كما وصفه أمير المؤمنين (عليه السلام)
 
ج- وننقل كلمة ثالثة لأمير المؤمنين (عليه السلام) تكشف بعداً آخر من أبعاد شخصية هذا الرجل العظيم والعملاق، مما يؤكد ضرورة الاهتمام بالجوانب الكيفية والتميز فيها في مختلف الأبعاد في التربية والعطاء والتأسيس وفي الهداية والإرشاد وفي الخطابة والتأليف وغير ذلك، فقد كان صعصعة كان من خيرة الخيرة، ودوما شاهرا سيف الكلمة أمام أئمة الضلال والظلام، حتى ان الإمام علي (عليه السلام) وصف صعصعة بقوله: "هَذَا الْخَطِيبُ الشَّحْشَح‏"([15])!
وعند مراجعة كتب اللغة والتفسير نجد ان الشحشح هو الخطيب الماضي في خطبته السلس في كلامه المهيمن على مقاليد حديثه، وإذا لاحظنا ان سيد البلغاء وأمير المتكلمين علي بن أبي طالب (عليه السلام) هو الذي يصف صعصعة بهذا الوصف النادر، سنعرف كم كان صعصعة عظيماً متميزاً في هذا المجال أيضاً!.
بل نقول: ان (الشحشح) ليس معناه ما ذكر فحسب بل فسر اللغويون أيضاً الشحشح أيضاً بـ: (الغيور)، كما ذكروا من معانيه (الشجاعة)([16]) إضافة إلى: (الماضي في خطبته البليغ)، ولا يبعد ان يكون المراد هو الأعم من ذلك، فان صعصعة كان (غيوراً) على دينه (شجاعاً) إلى أبعد الحدود (ذا بلاغة) وفصاحة في نصرة الحق وبيانه، فقد يكون المراد من قوله (عليه السلام) "هَذَا الْخَطِيبُ الشَّحْشَح‏" أي الغيور الشجاع إضافة إلى كونه بليغاً ماضياً في خطبته.
ولعل منشأ اشتقاق الكلمة يساعد على التعميم فان اشتقاق هذه الكلمة من الشح، بمعنى ان الزمان يشح ويبخل بان يجود بمثله ثم نحتت من هذا المعنى هذه الكلمة.
ومن المؤسف جداً ومن غير الانصاف ان نرى بعض علماء العامة([17]) عندما ينقل كلمة الأمير (عليه السلام) عن صعصعة فانه يذكرها بدون ذكر اسم صعصعة.
ان المهم جداً بل والضروري حقاً ان نقوم بدراسة متكاملة معمقة لحياة هذه الشخصيات العملاقة وان نتابع محطات حياة كل واحد واحد منهم كي نأخذ العبرة والفكرة، ثم نعمل على توفير أجواء روحية – فكرية – عملية تمهد لتربية امثال صعصعة وبذلك نكون قد قمنا بواجب الهداية والإرشاد على مستوى المستقبل أيضاً.
ثم ان كل شخص متصدٍ لهذا العمل العظيم لا بد ان يقوم بتربية نفسه اولاً كي يتمكن من إنجاز ذلك، ولكن هذه الاولية رتبية، وليست بالضرورة زمنية. فتدبر.
 
صعصعة يواجه معاوية ويفحمه
 
وهناك حادثة أخرى تحمل أبلغ الدلالة على شهامة صعصعة وشجاعته وقوة شخصيته، فبعد صلح الامام الحسن (عليه السلام) وسيطرة معاوية على أزمة الأمور، جاء صعصعة الى معاوية وكان عمر بن العاص جالسا بجواره فقال معاوية: (وسّع له على ترابيّة فيه) أي على الرغم من انه ترابي منسوب الى ابي تراب والمراد علي بن ابي طالب فان هذا لقب لقبه به الرسول (صلى الله عليه وآله) حيث قال له: (قم يا ابا تراب) في القضية المعروفه.
وعلينا ان نتصور دقة الموقف وحساسيته وصعصعة يواجه إمبراطوراً سفاكاً مهيمناً على العالم الإسلامي كله، فقال له صعصعة ببداهة وبراعة: " إنّي واللَّه لترابيّ، منه خلقت وإليه أعود، ومنه ابعث"، هكذا يعلنها مجلجلة في وجه الطاغوت. ثم يواجهه بإعصار من الهجوم المضاد: ويقول له: "وإنّك لمارج من مارج من نار"([18]) فعجبا لهذه الشجاعة من صعصعة وهكذا على كل مؤمن ان يكون!
وقوله: "وإنّك لمارج من مارج من نار" اقتباس من الآية القرآنية لقوله تعالى (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ)([19]) والمارج بحسب احدى التفسيرات هو الطرف من النار المختلط بالدخان وقيل الحمرة او الخضرة او الصفرة التي تعلو اطراف النار، وقيل النار الخالصة، ولعل الأول أقرب والله أعلم.
والملاحظ ان معاوية أراد تبكيته وتصغيره بقوله (على ترابيّة فيه) يريد بذلك ذمّه، لكن صعصعة ردّ الحجر من حيث أتى بل افتخر بهذه النسبة ورد الموقف فقال له: "وإنّك لمارج من مارج من نار" فيا لها من كلمة ومن موقف عظيم، وشجاعة كبيرة!!
 
صعصعة يواجه عثمان:
 
وفي موقف اخر مع عثمان وكان قبل ذلك بزمن، انضم صعصعة إلى وفد المصريين الذين جاؤوا محتجين على تصرفات عثمان في إقطاع القطائع لبطانته وغير ذلك فاصطحبوا معهم صعصعة وكان في ذلك الوقت شاب فاستصغره عثمان، يقول صعصعة: كما جاء في أمالي الشيخ الطوسي (أمالي الطوسي: عن صعصعة بن صوحان العبدي رحمه الله قال: دخلتُ على عثمان بن عفان في نفرٍ من المصريين فقال عثمان: قدّموا رجلاً منكم يكلّمني، فقدّموني فقال عثمان: هذا! وكأنه استحدثني فقلت له: ان العلم لو كان بالسنّ لم يكن لي ولا لك فيه سهم ولكنه بالتعلم فقال عثمان: هاتِ، فقلت: بسم الله الرحمن الرحيم: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ)([20])، فقال عثمان: فينا نزلت هذه الآية، فقلت له: فمُرْ بالمعروف وانهَ عن المنكر، فقال عثمان: دع ذا وهاتِ ما معك... الحديث وفي آخره قال: فغضب عثمان وأمر بصرفنا وغلّق الأبواب دوننا"([21])
وهنا لاحظوا غرابة امر الطغاة وتزويرهم الغريب للحقائق فان عثمان هو اول آمر بالمنكر وناه عن المعروف واول ساحق لحقوق الله ثم يقول: (فينا نزلت هذه الآية)! ولاحظ سرعة بديهة صعصعة ورباطة جأشه وقوة شكيمته واستمراره في محاجة عثمان الى ان غضب عثمان فطردهم، وطرد صعصعة من المدينة ومات في المنفى شهيداً غريباً محتسباً لكنه خلد بعض أروع صفحات التاريخ...
 
صعصعة في مواجهة الخوارج
 
وموقف اخر ينمّ عن عظمة صعصعة وعن مكانته العلمية وسرعة بديهيته وقوة حجته، فقد بعثه امير المؤمنين (عليه السلام) الى الخوارج الذين كانوا يتظاهرون بالقدس والتقوى وكانوا قد البسوا الحق بالباطل وكان لا يستطيع حجاجهم وإفحامهم من لم يكن واسع المعرفة قوي البديهة، وكان صعصعة هو الذي أختاره الإمام (عليه السلام) لهذا الدور.
وعندما واجههم صعصعة قرعوه باستدلال بدا لهم قوياً فقالوا له: أرأيت لو ان عليا كان فيما نحن فيه أي في جبهتنا أي كان خارجيا والعياذ بالله فماذا كنت فاعلا؟ ونص العبارة هكذا: (أرأيت لو كان‏ عليٌّ معنا في موضعنا أتكون معه؟ قال: نعم. 
قالوا: فأنت إذاً مُقلِّدٌ عَلِيّاً دِينَكَ، ارجع فلا دِينَ لَكَ)([22])! وقد بنوا كلامهم على مقدمة تصوروها موصلة لمقصودهم وهي: ان الاجتهاد في اصول الدين واجب بحسب المشهور وان من يقلد في الاصول فلا عبرة باعتقاده وايمانه.
وهنا لابد من جواب سريع مفيد ومقنع مفحم فما الذي قاله صعصعة؟
فقال لهم صعصعة في نفس اللحظة: (وَيلَكُم، ألا أُقلّد من قلّد اللَّهَ فأحسَنَ التَّقليدَ، فاضطَلَعَ بأمرِ اللَّهِ صِدِّيقاً لم يزل؟ أولم يكن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله إذا اشتدَّت الحرب قَدَّمه في لهواتها فَيَطَأُ صماخها بأخمصه، ويُخمِدُ لهبها بِحَدِّهِ، مكدوداً في ذاتِ اللَّهِ، عَنهُ يعبر رسول اللَّه صلى الله عليه وآله والمسلمون، فأنَّى تصرفون؟ وأين تذهبون؟ وإلى مَن ترغبون؟
وعمَّن تَصدُفُون؟ عن القمر الباهر، والسِّراج الزَّاهر، وصراطِ اللَّهِ المستقيم، وسبيل اللَّه المقيم، قاتَلَكُم اللَّهُ، أنَّى تُؤفَكونَ؟) الى اخر كلامه
 
وكلمة (ويلكم الا اقلد من قلد الله) فيها احتمالان :
 
الاحتمال الاول: أي قلد الله أي اتبّع امرَ الله بالقطع واليقين، والتقليد بالظن غير جائز ولكن أن تقلد الله وتسمع كلامه وتتعبد به فهذا حق صحيح لازم واجب اذ ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: "عَلِيٌّ مَعَ الْحَقِّ وَ الْحَقُّ مَعَ عَلِيٍّ يَدُورُ حَيْثُمَا دَار"([23]) فتقليده تقليد للحق المطلق وإتباع لأمره تعالى.
والاحتمال الثاني: أي قلده الله فالله فاعل على هذا الاحتمال ولفظ الجلالة منصوب على المفعولية على الاحتمال الاول، وعلى كل الاحتمالين فالجواب تام صحيح؛ وإن كان الاحتمال الأول أظهر إذ (قلد الله فأحسن التقليد فاضطلع بأمر الله صديقا لم يزل).
 
وفي جواب اخر نقول :
 
لو كان رسول الله في جبهة ما الا نكون معه ونقلده في ذلك؟ والجواب دون ريب: نعم، وعلي (عليه السلام) نفس رسول الله ص فهو مقلد لله ومقلد لرسوله فقد وجب إتباعه، ومن يستطيع ان يعترض على ذلك؟ فإننا كلنا مقلدون للنبي الاكرم ومن يحق له ان يجتهد في قباله (صلى الله عليه وآله).
ختاماً: ان من الأمور الضرورية جداً والأساسية حقاً تصفح حالات هؤلاء العظماء الذين رباهم أمير المؤمنين من أمثال صعصعة وعمار وسلمان والمقداد وأويس القرني وغيرهم وكذا اصحاب الامام الباقر والإمام الصادق كزرارة ومحمد بن مسلم وحمران وأمثالهم فانهم الذين صنعوا المستقبل وبنوا الحياة الفضلى لبنة لبنة وثبتوا المبادئ وربحوا الماضي والحاضر والمستقبل.. فلنكن في قافلتهم ولنتأسَّ بهم.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
 ========================
 
موجز البحث:
1- أن الجعل في آية (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا) والولاية في آية (إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) إنما هو إخبار عن الجعل السابق، وليس إنشاءً للجعل والولاية بنفس هذا القول.
2- ان الإمامة والولاية المجعولتين من قبل الله تعالى للأئمة الطاهرين (عليهم السلام) على نحو القضية الحقيقية لا الخارجية، فهي ثابتة لهم على مدار الزمن.
3- كما تكون الهداية وفعل الخيرات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للجيل المعاصر في الوقت الحاضر، كذلك يمكن ان تكون للأجيال القادمة لألوف السنين وذلك عبر وضع خطط مستقبلية لتستمر الهداية وفعل الخيرات إلى أعماق المستقبل السحيق.
4- لم تتحدد هداية الأئمة للأمة وتبليغهم لرسالات الله، بحدود زمانهم بل كانوا هم الهداة للأمم للألاف من السنين القادمة بل إلى ما شاء الله (نهج البلاغة ونهج الفصاحة نموذجاً).
5- ضرورة صناعة المستقبل فضلاً عن استكشافه وذلك عبر آليات معينة.
6- ان مواجهة المتفوقين من جانب الكم لا تمكن إلا عبر التميّز الكيفي والاهتمام بتربية النماذج العالية الكفائة.
7- ان تسطيح الحوزات بما يرجع إلى تضعيف جانب الكيف خطأ استراتيجي.
8- أصحاب الأئمة (عليهم السلام) وأنصارهم هم نماذج يقتدى بهم، وهم أمثلة رائعة للتفوق الكيفي المبهر (صعصعة بن صوحان نموذجا).
========================
 

 


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=2133
  • تاريخ إضافة الموضوع : الاربعاء 12 رجب 1437هـ
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28